جنين - صبا. نت
كتبت حنين حج إبراهيم
 
كانت الشمس خجولة عندما قررت التوجه لإجراء تلك المقابلة، كانت تلك قصة نجاح لفتاة تختبئ وراء عدسة نظارتها، فمع وصولي إلى المكان بدأت الشمس تعكس خيوط أشعتها لتضرب في عينيها فلم أعد أرى لونها، وسرعان ما أغمضتها في ذلك الجو وهي تقف أمام باب مشروعها الصغير الذي تعلوه لافتة كتبتها صديقتها ، روحت عميقاً في تلك الحروف وبطريقة كتابتها الأنيقة وبلونها الأخضر الداكن
وأخيرا جاء الافتتاح في خريف آذار لاستديو يعج بالبساطة والتميز، يزين بربيع الأحلام الممتلئة في مخيلة تلك الطفلة الصغيرة ذات السبعة أعوام
فمع كل صباح تستجمع مجد طاقاتها لتقف على حافة الباب الأخضر الذي اختارته بلون أحلامها، تتأمله، تزيل غباره، ثم تفتحه لتدخل الشمس إلى العالم الخاص بها وتبدأ الموسيقى الفيروزية بامتياز تعلو وتعلو، ومجد تنثر عطرها في كل أرجاء المكان الذي يضج ببساطة إمكانياته وبجدرانه الناصعة البياض تماما كالياسمين باستثناء تلك الخلفية التي صممتها وصنعتها بأناملها الصغيرة من أخشاب(المشاتيح) التي كان يستخدمها سكان الحي للتدفئة، لكن مجد جمعتها وأوقدت بها شمعة أحلامها، وكما صنعت من ذلك الخشب مقاعد متينة قوية، وطاولة صغيرة قاعدتها من جذع شجرة متينة كمتانة وقوة إرادتها
هذا المكان أصبح عالمها وبيتها الصغير الذي تقضي فيه معظم وقتها وتهرب إليه من قسوة الواقع الذي أجبرها على ترك عملها الذي تحبه كأخصائية علاج وظيفي، "أستديو مجيدة " كان هو الاسم الذي أطلقته مجد صانوري على عالمها الصغير لتربطه بتلك الطفلة المدللة مجيدة بنظر والدتها والتي أطلقت الاسم ولم تدرك أنه صيغة مبالغة لكثرة الكرم والعطاء صفتاها المتلازمتان
وهكذا تبدأ مجد كعادتها ترتيب الأستديو، والذي فيه كل زاوية تروي حكاية، حكاية حب وأمل، لأنه المكان الذي صنعته أيدي تؤمن إيمانا مطلقا لا يراوده شك أنها وجدت في هذا العالم لتحلم، لتعطي، لتهب كل ما هو جميل لمن حولها، هي تلك الفتاة السمراء، في سمارها تجد فخامة الأحلام، ليتسع العالم كله أمامها لكثير من الآمال
تبلغ مجد الآن تبلغ 27 من العمر وهي من سكان مدينة جنين، كانت قد درست العلاج الوظيفي في الجامعة العربية الأمريكية، وبعدها التحقت بالعديد من المؤسسات كأخصائية علاج وظيفي ، فقبل سنة كانت تقف الفتاة على حافة اليأس الموازية لشرفة أحلامها بعد أن أغلقت أمامها كل المنافذ المتصلة بعملها كمسؤولة علاج وظيفي لمدة أربع سنوات، عملت خلالها لدى العديد من المؤسسات واكتسبت فيها الكثير من الخبرات وطورت قدراتها ، لتصطدم طموحتها وأحلامها مع روتين وصعوبة العمل في هذه المؤسسات مما دفعها إلى التفكير بمشروع عمل خاص بها ليكون مصدر دخل ثابت ومعتمد
وخلال فترة تنقلها وعملها كأخصائية علاج وظيفي كانت قد انضمت إلى عائلة مسرح الحرية كطالبة في إحدى دورات التصوير التي يقيمها قسم الوسائط المتعددة في المسرح، وكان ذلك أثناء قدومها لزيارة أحد المعارض المقامة في المسرح منساقة خلف شغفها الصغير المختبئ داخلها من عمر السبع سنوات ولكن حظها لم يسعفها في ذلك لأن المعرض كان قد انتهى
لكن زيارات مجد تواصلت، حتى أتت ذات يوم للمسرح برفقة كاميراتها الخاصة والتي كانت قد حصلت عليها هدية من والدتها بعد تخرجها من الجامعة كأول كاميرا احترافية خاصة بها وعندما حصلت عليها كانت سعادتها لا توصف واستمر تواصلها مع قسم الوسائط المتعددة حتى التحقت بدورات التصوير التي يقيمها المسرح، وبالفعل كان ذلك والتحقت بدورة للتصوير الفوتوغرافي لمدة أربعة شهور وواصلت خلالها عملها في علاج وظيفي
لكن الدافع لتعلم مجد فن التصوير الفوتوغرافي هو حبها لهذا الفن وميولها نحوه، ولم تكتف بذلك، بل كانت تبحث دائما لتتعلم المزيد واعتمدت على التعلم الذاتي الذي اعتبرته وسيلة مهمة للتطوير المستمر في كل شيء، ولم تنحصر ميولها على نوع معين من التصوير، فهي الآن في بداية المشوار، وحتى الآن لم تحدد نوعا معينا من التصوير، وتحلم اليوم بالوصول إلى مستوى يشعرها بالرضى أكثر عن نفسها
حبها للكاميرا كان ساطع كالشمس وجميل كالجمال، فأكثر المشاهد التي كانت تجذب عدستها تلك التي تعكس الجمال الرباني في مخلوقات الله بالطبيعة، وكما استهوتها الحياة العفوية أكثر، وأحبت إظهار هذين النوعين من الصور لعيون الناس بحجم جمال لم يعتادوا عليه، وكما كانت تميل كثيرا لتصوير الناس في الشارع لتنقل تلك اللحظات العفوية البسيطة من خلال عدسة كاميرتها، وركزت على تصوير كبار السن والناس الذين يعانون بسبب ظروف معينة لأن ملامحهم تحكي كفاحهم عبر السنين
في عائلة كبيرة تضم تلك الطفلة الهادئة الخجولة، واحتضنت في عينيها حلمها الدافئ الصغير وخبأته حتى تكبر، وكبقية الأطفال كانت تحب اللعب كثيرا وكان أكثر ما يستهويها منذ طفولتها الصور المعلقة على الجدران وخاصة التي تحوي مكانا لها، وكانت انعكاسات الأشياء على الماء وصورها تسحر خيالها الصغير لذلك أحبت مادة العلوم في المدرسة، وهذه العائلة كان لها دورا كبيرا فيما وصلت إليه الآن
دمجت مجد رغبتها وشغفها في التصوير مع المعلومات التي كانت تتلقاها في الدورة لينتج عن ذلك مصورة فوتوغرافية قادرة على التصوير باحترافية وتنظيم بعيدا عن العشوائية وموجهة بشكل دقيق.
وهكذا أصبحت مجد جزءا لا يتجزأ من عائلة مسرح الحرية وشاركت في العديد من الدورات والأنشطة التي كانت تنظم ما بين فترة وأخرى والتي كان أخرها دورة التصوير الوثائقي التي قدمت لها المزيد من التنظيم لحياة مجد العملية في هذا الاتجاه ووجهت تفكيرها بشكل جدي ليكون هناك مرسى حقيقي لحلمها الصغير في امتلال استديو خاص بها
وبشكل سريع انتقلت مجد إلى حيز التطبيق لفكرتها فذهبت لوالدتها واستأذنتها لإقامة استديو في الكراج الخاص بمنزلهم وما أن حصلت على الموافقة والتشجيع حتى بادرت مسرعة إلى تنظيف المكان بمساعدة شقيقها وإجراء التصليحات اللازمة من كهرباء ودهان وصناعة الديكورات من الخشب القديم المتوافر لديها
استمرت هذه التجهيزات لمدة شهرين متواصلين تخللها العديد من المخاوف التي تجاوزتها بدعم من أهلها وأصدقائها وإرادتها القوية، فعملت على تجهيز الأستديو بأدوات بسيطة جدا تشابه بساطة تلك الطفلة واحلامها التي في داخلها، بيديها الناعمتين رسمت اللوحة التي تحب ان تراها وتسكنها لتثبت للعالم أجمع أن إرادة الروح والقلب وإيماننا بأحلامنا وبأنفسنا أقوى بكثير من قوة أجسادنا
"أستديو مجيدة " كله قام بروح وقلب واسم تلك الطفلة، فما هي القوة الدافعة التي امتلكتها مجد حتى تستطيع شق طريق أحلامها، وما هو الذي جعل مجد فتاة قادرة على تحقيق حلمها في مجتمع يبدو متناقضا بعض الشيء مجتمع تحده القيود وتعيقه كثيرا العادات والتقاليد البالية
calendar_month28/03/2017 13:00   visibility 1,419